الجزءالرابع
"لماذا؟"
(لم يحضر كمال على العشاء أيضا)
قالها امجد وهو يجلس حول مائدة الطعام وتبدوا على ملامحه العصبية.. واردف بحدة: الى متى سيستمر هذا الشاب في تصرفاته؟..
قال مازن بهدوء: لا عليك يا والدي.. سيأتي بعد قليل..
انفعل والده وقال: منذ نصف ساعة وانت تقول لي مثل هذا الكلام.. لو كان سيأتي لجاء مبكرا..
واردف قائلا: اتصل به بسرعة واطلب منه ان ياتي فورا..
- حسنا يا والدي سأفعل.. اهدئ انت فقط..
نهض مازن من مكانه واتجه الى الطاولة الصغيرة القريبة من المائدة ليلتقط هاتفه المحمول ويتصل بكمال.. اما ملاك فقد استمرت في تحريك الملعقة كعادتها في الطبق دون هدف.. فقالت مها بعطف: ملاك .. لماذا لا تأكلين؟..
قالت ملاك بابتسامة باهتة وهي ترفع رأسها الى مها:من قال هذا؟..
قالت مها وهي تشير الى طبقها: طبقك المليء بالطعام..
تركت ملاك الملعقة من يدها وقالت وهي تتنهد: لا اشعر برغبة في ذلك..
قالت مها متسائلة: ولماذا؟.. ان كان والدك هو السبب.. فقد اتصل بك اليوم وتحدث اليك كما وعدك..
قالت ملاك بصوت خفيض وهي تتطلع الى نقطة وهمية: ليس الامر سهلا كما تظنين.. ان فراق ابي يعني لي فراق العالم بأسره.. اني لا اعرف احدا سواه..
قال مازن الذي سمع صوتها على الرغم من انخفاضه: وماذا عنا.. الا تعرفينا ايضا؟..
قالت ملاك وهي تلتفت له: ولكن ليس مثل ابي..
هز مازن كتفه وسار ليكمل طريقه ولكنه اصطدم بالملعقة المجاورة بملاك دون قصد.. فانحنت ملاك لتلتقطها.. ولكن مازن كان الاسرع الذي انحنى وقال بابتسامة وهو يعيد وضع الملعقة على الطاولة وينهض واقفا : لا تتعبي نفسك..انا من أسقطها وانا من عليه ان يحضرها..
وجدت ملاك نفسها تزدرد لعابها وتقول بصوت خافت: شكرا لك..
((خذي دميتك))
((شكرا لك))
دس مازن اصابعه بين خصلات شعره وهو يحاول فهم مادار بذهنه.. أي كلمات تلك التي مرت بباله.. ومن قالها؟.. أيكون هو؟.. ولماذا قالها ومتى؟.. ولماذا جالت بذهنه الآن؟..لم يستطع الاجابة على أي من تساؤلاته وهو يعود الى مقعده.. ويلتقط الملعقة ليتناول طعامه من جديد..ولكن.. لماذا لم تدر هذه الكلمات في ذهنه الا عندما جاءت ملاك الى منزلهم؟.. لماذا؟..
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
جلست مها في غرفتها بعد العشاء وهي تشعر بالتعب وهي ترى أكوام الكتب امامها على الطاولة.. وقالت بضجر: لقد تعبت..
واردفت بسأم: لا اعرف حل لهذه المعادلة الحسابية.. لقد سأمت..
نهضت من على المقعد ورمت بنفسها على الفراش بتعب.. واخذت تفكر بأي شيء غير الكتب التي لا تزال مفتوحة .. وفجأة قالت بابتسامة: ربما كان حسام يعلم حل هذه المعادلة..
وكأنها لم تكن تريد الا أي حجة لتتصل به.. فالتقطت هاتفها المحمول واتصلت به قائلة بابتسامة: الو .. اهلا حسام كيف حالك؟..
عقد حسام حاجبيه وقال: انا بخير.. ماذا بك يا مها ولم تتصلين في هذه الاثناء..
قالت مها وهي تتوجه نحو الطاولة وتجلس خلفها: لدي معادلة حسابية ولا اعرف حلها.. ولم اجد سواك ليساعدني على ذلك..
قال حسام بابتسامة: مها.. ماذا جرى لك؟ .. انسيت ان تخصصي مختلف تماما عنك؟..
قالت مها وهي تلتقط قلمها وتقلبه بين اصابعها: لم انسى.. ولكن..لم اجد من يساعدني سواك..
ادرك حسام منذ البداية انها لم تتصل من اجل المعادلة الحسابية وقال بمكر: ومن قال لك اني اعرف حل هذه المسائل؟..
قالت بابتسامة: لقد حللت معي سابقا مسألة مماثلة لها..
قال حسام وهو يجلس على طرف فراشه: مشكلتك انك لا تعرفين التمثيل والكذب..ولكن لا يهم اخبريني الآن بما عندك..
اخبرته مها بالمسألة.. فحاول ان يشرح لها طريقة حلها بهدوء.. اما الاولى فقد كان اعجابها به يزداد.. لقد كانت معجبة به منذ ان كانت طفلة ..لا تنكر هذا.. وتولد شعور بداخلها تجاهه مع الايام كلما يأتي الى منزلهم من اجل مازن او كمال.. كانت تلعب معه احيانا وهي صغيرة..واحيانا اخرى كانت تلعب معه هو واخوتها.. وحتى عندما كان كمال يرفض اشراك فتاة في اللعب.. كان حسام يدافع عنها.. منذ ان كانت طفلة وهي تراه فارس احلامها الذي يذود عنها..ولكن.. مشكلتها هي انها لا تعرف مشاعر حسام تجاهها.. احيانا تشعر به يهتم بها.. واحيانا يعاملها كأخت له تماما.. ولكن لم تعلم ابدا بما يخفيه في قلبه.. واذا كان يحمل لها ذات الشعور الذي تحمله له..
وقال حسام عندما انتهى من شرح الحل لها: والآن هل فهمت الطريقة..
قالت بتأكيد وثقة: بالطبع ما دمت قد شرحتها لي..
قال حسام بهدوء: حسنا اذا ما دام الامر كذلك.. فالى اللفاء..
اسرعت تقول: حسام انتظر..
قال حسام بابتسامة: منذ البداية وانا انتظر الموضوع الاساسي لاتصالك.. اخبريني ما هو؟..
ازدردت لعابها وقالت : الموضوع الاساسي؟.. لا يوجد أي موضوع اساسي.. فقط أردت ان أسألك ان كنت ستأتي غدا لمنزلنا ام لا..
قال حسام متسائلا: وما الداعي لحضوري؟..
مطت مها شفتيها وقالت: لا يوجد أي داع ابدا.. الى اللقاء..
قال حسام بابتسامة واسعة: اراك في النادي اذا.. الى اللقاء..
انهت مها المكالمة لتضع الهاتف على الطاولة ومن ثم تعود لترمي بنفسها مرة اخرى على الفراش.. وقالت وهي تتنهد: احيانا اتخيل او ربما اتوهم انك تحمل لي مشاعر ما في قلبك يا حسام ...
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
تطلعت ملاك من نافذة غرفتها الى النجوم المتلألأة في السماء.. والتي بدت كماسات تبرق في ثوب الليل الممتد بلا نهاية ..كانت شاردة الذهن.. تفكر في اشياء كثيرة.. ولكن محور تفكيرها كان ابيها..واطرقت برأسها للحظة لتتطلع الى القلادة التي حول عنقها.. كانت على شكل قلب يتوسطه قلب متأرجح.. كانت القلادة التي اهداها لها والدها ذلك اليوم..
شعرت بملل شديد وهي لا تشعر بأي رغبة في النوم.. خصوصا وان المكان غريب عليها ولم تعتد النوم الا في منزلها وفي غرفتها..القت نظرة سريعة على ساعة يدها التي كانت تشير عقاربها الى الثانية بعد منتصف الليل.. وتنهدت قائلة وهي تتطلع الى السماء من جديد: يا لهذا الليل الطويل.. متى تشرق الشمس؟ ..
حركت عجلات مقعدها الى حيث حقيبتها.. وتطلعت الى مجموعة من الكتب والروايات التي جلبتها معها الى هنا.. ولكنها لم تشعر بأي رغبة في القراءة..لذا وجدت نفسها تحرك عجلات مقعدها من جديد الى الباب ومن ثم تحرك مقبضه وتدفعه بهدوء..وتخرج الى الردهة التي كانت اشبه بصورة ثابتة.. لا يتحرك فيها أي شيء.. ولا يسمع فيها أي صوت سوى صوت انفاسها .. ودارت بعينيها في ارجاء الردهة قبل ان تحرك عجلات مقعدها وهي تشعر بالخوف.. الخوف من الوحدة.. الخوف من الظلام.. الخوف من كل شيء.. ووجدت قبضتاها تنقبضان على عجلتي المقعد.. تمالكت نفسها وحاولت ان تهدئ نفسها .. وهي تردد ان ليس هناك ما يخيف.. فالصمت يعم ارجاء المكان و...
وبغتة سمعت صوت ما..صوت حركة ما.. فانتفضت بقوة .. وسرت في جسدها ارتجافة خوف..وهي منكمشة في مكانها لا تقوى على الحراك.. ودون ان تحاول رفع عينيها .. سمعت الباب الرئيسي للمنزل يفتح.. ازداد خوفها وهي نخشى ان يكون القادم لصا.. حاولت العودة من حيث أتت.. ولكن يداها لم تطيعاها في تحريك عجلتي المقعد.. رفعت عيناها بخوف وهي تزدرد لعابها وشاهدت ذلك الظل الاسود يدخل الى لمنزل بهدوء شديد ..وبينما هو يسير الى حيث الدرج.. التفت بغتة الى اليسار.. الى حيث تجلس ملاك! ..وهنا اخذ قلب ملاك يخفق بقوة وخوف وشعرت بانمالها ترتجف ..ولكن سمعت صوت ذلك الظل فجأة وهو يقول: من هناك؟..
ارتجفت مرة اخرى.. ولكن تذكرت انها سمعت هذا الصوت من قبل وانها تذكره.. رفعت رأسها الى الواقف عند السلم وقالت وهي تزدرد لعابها بتوتر: انا..هل انت كمال حقا؟..
تنهد كمال وقال: لقد ظننت ان هناك متسللا دخل الى المنزل..
وابتسم بسخرية وهو يتحدث الى نفسه: ( مع اني حالك لا يختلف كثيرا)..
في حين قالت ملاك وهي تحاول تمالك اعصابها: لقد ظننت الشيء ذاته عندما رأيتك تدخل الى المنزل..
قال متسائلا وهو يعقد حاجبيه: ما الذي يبقيك مستيقظة حتى هذه الساعة المتأخرة؟..
زفرت ملاك بحدة وقالت: انه الارق.. وانت اين كنت حتى هذه الساعة المتأخرة؟..لقد سأل والدك عنك كثيرا..
التفت كمال عنها وقال بلامبالاته المعهودة: اهتمي بشؤونك ولا تتدخلي في خصوصيات غيرك..
ارتفع حاجبا ملاك بمزيج من الدهشة والالم وتطلعت اليه للحظة قبل ان تقول وهي تطرق برأسها بمرارة وتدير عجلات مقعدها: معك حق.. لم يكن علي التدخل في خصوصيات الغير..
قالتها وتوجهت الى غرفتها.. واغلقت الباب خلفها بقوة.. وقالت بمرارة وهي تشعر بغصة تملأ حلقها: ما الذي فعلته له حتى يعاملني هكذا؟.. ما الذي فعلته؟..
ووجدت نفسها تتوجه نحو السرير وهي تشعر بدموعها تترقرق في عينيها.. وترفع جسدها من المقعد بالم ومرارة.. عضت على شفتيها وهي تجد نفسها تفشل في رفع جسدها فقالت بعصبية: لماذا؟..لماذا؟.. تبا.. تبا..
نجحت أخيرا وارتفع جسدها لتجلس على الفراش وتترك لجسدها الفرصة ليرتاح.. تنهدت بحزن قبل ان تلقي برأسها على الوسادة..وعلى الرغم من حزنها وجدت نفسها تغط في النوم.. نوم عميق وبلا أحلام...
ولكن اسمحوا لي ان اقول لملاك..انها البداية فقط.. وان ما تراه اليوم.. هو ابسط شيء قد يواجهها في حياتها هذه المليئة بالصراعات...
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
ضوء الشمس القوي سقط على عيني ملاك.. ليجعلها تعقد حاجباها بقوة .. ومن ثم تغطي وجهها بالغطاء وهي تقول وهي تشعر بالنعاس: اريد ان انام يا ابي..
شعرت نادين التي فتحت ستارة الغرفة بالاشفاق تجاهها وهي تسمعها تقول عبارتها تلك.. وقالت بصوت هادئ: آنستي انها الساعة العاشرة.. الن تستيقظي؟..
قالت ملاك وهي تتثاؤب: لا .. انا متعبة لم انم امس الا في ساعة متأخرة..
قالت نادين متسائلة: ولماذا؟..
فتحت ملاك احدى عينيها وقالت وهي تبعد الغطاء عن وجهها: لقد شعرت بالارق ولم استطع النوم و...
بترت ملاك عبارتها وارتسم على ملامحها الحزن وهي تتذكر ما حصل بالامس والكلمات التي قالها لها كمال..ولكن نادين لم تنتبه لذلك وهي تقول بابتسامة: ذلك لانك لم تعتادي النوم هنا بعد.. والآن هيا استيقظي..
قالت ملاك وهي تعتدل في جلستها: اخبريني اولا من يوجد بالمنزل؟..
قالت نادين وهي تقترب منها وتضع الوسادة خلف ظهرها: لا احد يا آنستي سواك انت وانا و الخدم..
قالت ملاك بدهشة: واين ذهب الجميع؟..
قالت نادين بهدوء: السيد امجد والسيد مازن غادرا الى الشركة منذ الساعة الثامنة صباحا.. اما السيد كمال والآنسة مها فقد ذهبا الى الجامعة منذ ساعة..
قالت ملاك بهدوء مماثل: فليكن.. ساستبدل ملابسي واخرج لأتناول الفطور..
قالت نادين وهي تهم بالخروج من الباب: سيكون الفطور جاهزا..
قاليها واغلقت الباب خلفها.. اما ملاك فقد استبدلت ملابس النوم.. بفستان ذا لون وردي.. جعلها تبدو كالزهرة المتفتحة.. ورفعت خصلات شعرها بواسطة ربطة شعر من اللون ذاته..تطلعت الى نفسها في المرآة لتطمأن الى شكلها ومن ثم لم تلبث ان غادرت الغرفة وهي تتوجه الى طاولة الطعام.. رأت الطاولة خالية الا منها وقالت بابتسامة مريرة: الامر لم يختلف كثيرا عن وجودي بالمنزل..
قالت نادين التي كانت تقف قريبة منها: آنستي لقد اتصل استاذ الرياضيات منذ قليل وقال انه سيأتي بعد ساعة..
هزت ملاك كتفيها بعدم اهتمام.. ومن ثم شرعت تتناول افطارها بصمت وهدوء..وان لم تكن تشعر بمذاق أي شيء مما تتناوله..وما لبثت ان قالت بعد انتهاءها من تناول طعام الفطور:أريد ان أذهب للتنزه في الحديقة الخارجية..خذيني الى هناك..
قالت نادين بابتسامة: كما تشائين آنستي ولكن الجو بارد بالخارج .. اذهبي لترتدي ملابس أكثر دفئا..
قالت ملاك وهي تحرك مقعدها: لا اريد..
- ولكن آنستي الجو بارد..
قالت ملاك باعتراض: انا احب الخروج في جو كهذا وبملابسي الاعتيادية..
قالتها وواصلت طريقها فقالت نادين باستسلام: كما تشائين..
غادرت المكان مع نادين الى الحديقة الخارجية للمنزل.. وتطلعت ملاك حولها بابتسامة وقالت وهي تلتفت الى نادين: خذيني الى حيث توجد الزهور..
قالت نادين مداعبة: انها تجلس امامي..
اتسعت ابتسامة ملاك وقالت وهي تشعر بالهواء البارد يداعب شعرها ووجنتيها: هيا خذيني الى حيث الزهور..
قالت نادينة وهي تدفع مقعد ملاك بهدوء: لست اعلم اين توجد الزهور في هذه الحديقة.. ولكن لنبحث عنها..
أخذت نادين تدفع ملاك أمامها في تلك الحديقة الواسعة.. والممتلأة بالحشائش والأشجار.. وقالت ملاك بغتة: إنها هناك ..
قالتها وأشارت بيدها الى الجانب الأيسر لها..فدفعت نادين المقعد وتوقفت بها امام حوض الأزهار تماما..فأغمضت ملاك عينيها وهي تتنهد.. ورسمت على شفتيها ابتسامة حالمة وقالت: كم أتمنى ان ابقى هنا طويلا..طويلا جدا..
شعرت بنسمات الهواء الباردة تعود لتداعب وجنتيها وتحرك خصلات شعرها الاسود..فتحت عينيها وتطلعت الى الطيور المحلقة في ذلك الفضاء.. وارهفت السمع الى صوت الرياح.. ومن قم لم تلبث ان مدت يدها لتداعب زهرة ما و...
(حذار ان يجرحك شوكها)
تراجعت ملاك بيدها اثر الصوت الذي سمعته.. واسرعت تلتفت الى القادم نحوهم وقالت بدهشة: مازن.. الم تذهب الى الشركة مع ابيك؟..
ابتسم مازن الذي كان يرتدي زيا مكونا من بنطال وسترة ذا لون بني قاتم وقميص ذا لون بني هادئ (البيج) .. ولم يكن يرتدي أي ربطة للعنق..فمازن لم يكن يحب ارتداء ما يخنقه كما كما يقول..وقال: بلى.. ولكني عدت.. فقد شعرت بالملل..
وتساءل قائلا: اخبريني .. ما الذي تفعلينه هنا؟..
هزت كتفيها وقالت: كما ترى ..اتطلع الى الطيور .. اداعب الزهور.. واستمع الى صوت الرياح..
قال مازن بسخرية: تستمعين الى صوت ماذا؟..
وقبل ان تجيبه ملاك.. التفت الى نادين وقال: هل لك ان تحضري لي كأس من الماء؟..
قالت نادين مترددة: وماذا عن ملاك؟..
قال مازن بهدوء: سأبقى معها ولن اتحرك من مكاني ريثما تعودين..
اومأت نادين برأسها وقالت : حسنا اذا.. لن اتأخر..لحظات وأعود ..
في حين قالت ملاك وهي تتطلع الى البعيد: قد تظن اني طفلة لو أخبرتك انني أحيانا أتحدث الى الزهور .. لاني لا اجد سواها لأتحدث اليها.. على الاقل .. اشعر اني أستطيع ان أتحدث كما يحلوا لي.. وانها لن تتضايق مما سأقوله ابدا..
تطلع لها مازن بدهشة وحيرة.. تتحدث الى الزهور.. وتستمع الى الرياح.. أمجنونة هذه الفتاة؟..في حين اردفت ملاك وهي تغمض عينيها: الوحدة شعور صعب يجعلك تتحدث الى كل ما حولك.. والى أي شيء كان..
قال مازن بهدوء غير عابئ لما تقوله: الجو بارد.. ادخلي الى المنزل الآن..
هزت ملاك رأسها نفيا وقالت: لا اريد..
قالت السيدة نادين بغتة: دعها انها عنيدة.. لن تفعل الا ما تريده هي..
التفط مازن كأس الماء من نادين وأخذ يشربه في حين عادت ملاك لتفتح عينيها وقالت مبتسمة: وهل أفوت على تفسي مشاهدة مثل هذا المنظر الجميل؟.. على الاقل قبل ان يصل الأستاذ واكون محتجزة في المنزل لأكثر من ساعة..
ما ان انتهت من عبارتها حتى عادت الرياح لتلفح وجهها ولكن هذه المرة بشدة اكثر.. وبنسمات باردة.. جعلت جسد ملاك يقشعر.. فقال مازن وهو يزفر بحدة: هل ستظلين بالخارج حتى تمرضي.. هيا ادخلي الى المنزل وارتدي على الاقل ما يدفئك..
قالت ملاك بعناد طفولي: لا..
ابتسم مازن وقال: معك حق يا سيدة نادين.. انها عنيدة حقا..
مدت ملاك يدها في تلك اللحظة وداعبت زهرة ما ذات لون وردي يشبه لون فستانها.. فقال مازن وهو يخلع سترته ويقترب منها: ولم لا تقطفينها ما دامت تعجبك؟..
قالت ملاك باعتراض: ان قطفتها ستبتعد عن بقية الوردات وستذبل بين يدي.. ولكن ان بقيت في مكانها فستزهر دائما..
ارتسمت ابتسامة على شفتي مازن وقال وهو يضع سترته على كتفيها: معك حق.. ستكون بحال جيدة ان بقيت مكانها ..
التفتت ملاك بدهشة الى مازن .. ورفعت حاجباها باستغراب لتصرفه.. ولكنها لم تلبث ان تذكرت والدها وما يفعله لها كلما احست بالبرد..لقد كان يخلع سترته ويضعها على كتفيها تماما كما فعل مازن!.. ازدردت ملاك لعابها وتطلعت اليه لوهلة قبل ان تقول بابتسامة مرتبكة: شكرا لك..
قال مازن مبتسما: لا عليك..
وظل صامتا وهو يعتدل في وقفته ويتطلع الى أي شيء مما حوله..في حين وجدت ملاك نفسها تقول: ولكن الن يغضب والدك ان غادرت العمل هكذا؟..
قال مازن بسخرية وهو يطوح بحجر صغير بعيدا: بلى.. ولكننها رغبته ..
قالت ملاك متسائلة: رغبته؟.. وكيف؟..
قال مازن وهو يلتفت لها: هو من أرادني ان اعمل معه.. لم أكن اريد ذلك ولكنه أرغمني على هذا العمل الذي اكرهه.. لهذا عليه ان يعلم اني من المستحيل ان اجد نفسي في عمل ابغضه ولا احتمل القيام به..
تطلعت له ملاك لوهلة ومن ثم قالت: ولكن يجب عليك مساعدة أبيك..
قال مازن وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله: وها انذا افعل.. ولكن على طريقتي الخاصة..
ترددت ملاك قليلا قبل ان تقول: ولكن هذا يعتبر خداعا له..
- فليكن ما يكون.. اريد ان اعمل في عمل اجد نفسي فيه لا ان اعمل في عمل أكون مرغما على ادائه.. كل ما يهم والدي ان أكون الى جواره فقط.. وماذا عني ايظن ان ليس لي طموح اتمنى تحقيقه..
صمتت ملاك ولم تجد ما تقول.. فقال مازن بهدوء: الم يحن الوقت للدخول؟.. الجو يزداد برودة..
ابعدت ملاك السترة عن كتفيها وناولتها لمازن وقالت بابتسامة باهتة: اعلم انك تشعر بالبرد .. لهذا خذها..
قال مازن باستنكار: لا.. انت فتاة ويجب علي ان...
قاطعته ملاك لتقول بهدوء: فليكن .. سأدخل الى الداخل.. حتى أريحك من عبئي عليك..
قالتها وحركت عجلات مقعدها بكلتا يديها وقد عادت اليها ذكرى الامس.. وما دار بينها وبين كمال.. وتساءلت للمرة العاشرة.. لماذا؟...
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
قالت مها بمرح وهي تودع صديقتها عند مواقف الجامعة: الى اللقاء اراك غدا.. ولا تنسي اتصلي بي لتخبريني ما حدث..
قالت صديقتها مبتسمة: بكل تأكيد لن أنسى.. الى اللقاء..
لوحت لها مها بيدها وهي تجري مبتعدة دون ان تنتبه لعيني ذلك الشاب الذي اخذتا تراقبانها وهي لا تزال تلوح بيدها.. وقال ذلك الشاب بغتة وهو يراها تقترب منه: كيف حالك يا ايتها الجميلة؟..
التفتت مها بحدة الى مصدر الصوت.. وارتفع حاجباها بدهشة وهي ترى الواقف امامها .. وزفرت بحدة وهي تقول: أرعبتني يا حسام؟؟
قال حسام مبتسما: احقا؟.. تستحقين ان تصابي بالرعب بكل صراحة..
قالت مها وهي تضع كفها عند خصرها: ولماذا؟..
ولكنها اردفت بحيرة: ولكن اخبرني.. هل انتهت محاضراتك في مثل موعد انتهاء محاضراتي؟..
قال بهدوء: بل قبلها بنصف ساعة.. ولكن أخذني الحديث مع احد الاصدقاء ولم اشعر بالوقت حينها.. وبعد مغادرته.. رأيتك وانت تغادرين الجامعة..
قالت مبتسمة: من الغريب ان تنتظرني.. انها المرة الاولى التي تفعلها..
- اولا انا لم انتظرك بل رأيتك مصادفة.. وثانيا اظن انها ستكون المرة الاخيرة..
ضحكت مها بمرح وقالت: لن تستطيع..
رفع حاجبيه باستخفاف وقال: ولم؟..
قالت مبتسمة وهي تتطلع الى مبنى الجامعة: لاننا في جامعة واحدة.. وسأراك كثيرا رغما عنك..
قال وهو يلوح بكفه مغيرا جفة الحديث: اخبريني هل هناك من سيوصلك.. ام أوصلك انا؟..
ومع انها لمحت سيارة والدها الذي يرسلها لها الى الجامعة مع السائق .. الا انها قالت: لا ادري لقد تأخر السائق كثيرا ولا اريد ان اتأخر على المنزل..
صمت حسام قليلا ومن ثم قال : حقا؟.. هل تأخر السائق يا مها؟ ..
اومأت برأسها وهي تزدرد لعابها.. فقال وهو يشير الى بقعة ما ويبتسم: وماهذه السيارة التي تقف هناك اذا؟.. اليست سيارتكم؟.. والسائق.. اليس السائق الخاص بوالدك؟..
قالت مها بحنق وهي تحرك قدمها بعصبية: بلى هو.. لم اره.. الى اللقاء الآن..
قال في سرعة: انتظري..
التفتت له وقالت بحدة: ماذا؟..
قال بابتسامة جذابة: لا يهون علي ان تذهبي وانتي متضايقة هكذا.. اذهبي الى السائق واطلبي منه ان يغادر.. وسأوصلك انا..
قالت بفرحة لم تستطع ان تكتمها بداخلها: حقا؟؟.. سأذهب اليه في الحال..
ومن ثم تنبهت الى نفسها فقالت بخجل: اعني حتى لا أأخره عن والدي..
ابتسم حسام وهو يراها تبتعد وتبلغ السائق حتى يغادر.. وما ان غادر السائق حتى أسرعت بخطواتها اليه وقالت بابتسامة واسعة: هاقد غادر السائق..
قال وهو يلتفت عنها: اتبعيني اذا الى حيث سيارتي..
قالت وهي تسير الى جواره: لا احب ان اتبع احد..
التفت لها وفي عينيه نظرة استخفاف.. ومن ثم واصل طريقه الى حيث السيارة.. ففتح قفلها عن طريق جهاز التحكم عن بعد.. واشار لهاحتى تركبها.. وابتسمت مها بسرور وهي تدلف اليها.. صحيح انها ليست المرة الأولى التي يوصلها فيها حسام الى مكان ما.. ولكنها مع هذا تشعر بسعادة كبيرة كلما شعرت بنفسها قريبة منه..
في حين استقر حسام خلف مقعد القيادة وأدار المحرك لينطلق بالسيارة .. وران الصمت عليهم بضع دقائق.. فقالت مها لتقطع هذا الصمت: ستأتي الى النادي اليوم.. اليس كذلك؟ ..
اومأ برأسه وقال: بلى.. ثم انت تعلمين ذلك.. فلم تسألين؟ ..
قالت متجاهلة عبارته: ما اخبار الدراسة معك؟..
هز كتفيه بالمبالاة وقال: جيدة..
قالت مها بصيق: ولم تجيبيني باقتضاب هكذا؟..
قال مبتسما:ماذا بك؟.. الست أجيب عن أسألتك؟..
اشاحت بوجهها نحو النافذة وقالت بحنق: اجل..
سالها حسام بغتة: ما هي أخبار ملاك؟..
قالت مها بعصبية: وما شأنك بها؟.. ثم هل طلبت توصيلي الى المنزل حتى تسألني عن ملاك؟..
قال حسام بهدوء شديد أثار أعصاب مها: انه مجرد سؤال عابر ..
قالت مها بحدة: اشك في هذا.. وعلى العموم فهي بخير.. اطمأن ..
ضحك وقال: ومن قال انني اردت ان اطمأن عليها؟..
قالت بعصبية: اذا لم تسأل عن أحوالها اذا لم ترد الاطمئنان عليها ..
أوقف حسام سيارته بجوار منزل مها وقال وهو يغمز بعينه: ربما لسبب آخر..
تطلعت له لوهلة دون ان تستشف من قوله أي شيء يروي فضولها .. ومن ثم لم تلبث ان قالت وهي تفتح باب السيارة: أشكرك على توصيلي ..
قال مبتسما: على الرحب والسعة..
ألقت مها نظرة أخيرة على حسام قبل ان تغادر السيارة وتنطلق الى المنزل.. وما ان ابتعد بسيارته حتى أحست بأنها قد فقدت شيئا هاما.. شيئا عزيزا وغاليا واهم من كل ما لديها...
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
جلس امجد في الردهة يحتسي القهوة.. ويتطلع الى الصحيفة بلا اكتراث.. والتفت الى حيث الدرج للحظات ومن ثم قال وهو يلمح مازن وهو يهبط درجاته: كيف حال العمل بالشركة يا مازن؟..
توقف مازن عن النزول .. وقال وهو يشعر بلهجة والده التي تخفي شيئا ما: على ما يرام.. لم تسأل يا والدي؟..
لم يجبه امجد بل ظل صامتا وهو ينتظر من مازن نزول الدرج.. وقال هذا الاخير وهو يهبط درجات السلم ويقترب من حيث يجلس والده: هل هناك امر ما يا والدي؟..
قال امجد وهو يشير له بالجلوس: انت ابني الأكبر يا مازن.. ويجب ان تكون ذراعي اليمنى في العمل.. اليس كذلك؟ ..
جلس مازن فوق المقعد الذي أشار له والده وظل مازن صامتا فقال امجد بحدة: اجبني .. اليس كذلك يا مازن؟.. ام تفضل ان تكون مجرد فأر يتسلل الى خارج الشركة كل يوم في العاشرة واحيانا حتى التاسعة صباحا؟..
اتسعت عينا مازن وقال وهو يزدرد لعابه: من قال لك هذا يا والدي؟..
قل امجد بسخرية: أتظن اني أحمق لا اعلم ما يدور في الشركة .. انني ارصد كل نفس فيها.. ولكن ابني الأكبر الذي يجب ان يكون قدوة للموظفين يتسلل خارجا كل يوم كالفئران..
قال مازن وهو يكور قبضته: أرجوك ابي لا داعي لمثل هذا الكلام..
- هل لك ان تفسر لي تصرفك هذا اذا؟..
دس مازن أصابعه بين خصلات شعره وقال: انت تعلم منذ البداية اني لا اجد نفسي في هذا العمل.. واني لم اكن ارغب في ان اقوم به..
قال والده بانفعال: وكنت تريدني ان أتركك تعمل لدى شركة اخرى منافسة.. لا.. انت ابني ومن حقي عليك ان تكون الى جوار والدك وتساعده..
قال مازن برجاء: ولكن لي طموح في هذه الحياة يا ابي.. ولو عملت في شركتك فلن أحققه...
اشار له والده بالصمت وقال: كفى يا مازن لقد انتهى النقاش .. وحذار ان تغادر الشركة مرة اخرى والا سيكون لي تصرف آخر معك..
زفر مازن بعصبية وقال: هل تريد أي شيء آخر يا والدي؟..
قال والده باقتضاب : لا..
نهض مازن من كرسيه وأسرع يتوجه الى أي مكان المهم ان يهدئ من اعصابه قليلا..ووجد نفسه امام الباب الرئيسي.. فأسرع يفتحه و ...
(الى اين؟..)
تردد ذلك الصوت الهامس الرقيق من خلفه.. فالتفت الى ملاك ناطقة العبارة السابقة وتطلع اليها للحظات .. في حين ظنت ملاك ان صمته يعني انه لم يسمعها جيدا.. فعادت تكرر عبارتها وقالت بصوت مرتفع أكثر: الى اين تذهب يا مازن؟..
مط مازن شفتيه بغضب ومن ثم قال وهو يستدير عنها: الى الجحيم..
لم يكن الوقت المناسب ابدا لملاك ان تتحدث اليه وهو في هذه الحالة من الغضب.. في حين تطلعت اليه ملاك للحظات بألم ومن ثم لم تلبث ان قالت بمرارة : ما بالكم جميعا؟..الكل يكره ان احدثه..ليتني لم آتي الى هنا.. ليتني لم افعل..
التفت مازن اليها بدهشة وسرعة ومن ثم قال: من تعنين بالجميع يا ملاك؟.. هل هناك من ضايقك؟..
اشاحت بوجهها لتخفي الدموع التي ترقرقت في عينيها ومن ثم قالت بألم: وماذا يهم؟.. انت مثله تماما.. تكره التحدث الي..
عاد مازن ادراجه الى حيث تجلس ملاك وافتعل ابتسامة على شفتيه وهو يقول: لم اقصد محادثتك بهذا الاسلوب.. فقد كانت اعصابي مشدودة بعض الشيء.. ولكن لم تخبريني من الآخر الذي ضايقك..
تطلعت اليه بتردد ومن ثم لم تلبث ان قالت بصوت خافت: كمال..
تساءل باهتمام: وما الذي فعله؟..
- لقد سألته عن شيء ما يعنيه.. فطلب مني ان لا اتدخل في شؤونه وان اهتم بشؤوني فقط..
عقد مازن حاجبيه وقال وهو يهبط الى مستواها: سألته؟.. وعن ماذا سألته؟..
ازدردت ملاك لعابها وقالت: لقد أصابني الارق ليلة البارحة.. ورأيته يدخل في ساعة متأخرة.. فسألته عن سبب تأخيره كل هذا الوقت لأن عمي كان قلقا عليه..
قال مازن بابتسامة باهتة: ملاك.. لا تدعي هذا يضايقك.. فهذه هي عادة كمال.. لا يحب ان يتدخل احد في شؤونه وحتى والدي نفسه.. ثم ان تأخره امر طبيعي فهو يتأخر يوميا عن المنزل..
صمتت ملاك دون ان تعلق على عبارته.. فقال وهو يتطلع اليها: أظن اني ادين لك بالاعتذار عما فعلته قبل قليل.. انا آسف.. واعتذر كذلك نيابة عن كمال.. ولكن لا تتضايقي.. فلا احب رؤية ابنة عمي عابسة هكذا..
التفتت اليه وارتسمت ابتسامة حملت كل ما بداخلها من امتنان له فقال مبتسما وهو يربت على كفها وينهض واقفا: والآن مادمت قد رايتك مبتسمة.. فعن اذنك سأزور احد أصدقائي ..
قالها ولوح لها بكفه.. ولكن ملاك لم تكن تطلع اليه في تلك اللحظة.. بل الى كفها التي ربت عليها مازن.. وشعرت بقشعريرة باردة تجري في جسدها.. وهي تتذكر لمسته لها.. ووجدت قلبها يخفق بقوة..
ولهفة...